السودان ليس سوريا الأسد: تفنيد تقرير “نيو لاينز” حول الكبتاغون
أسامينا
عبد العزيز الزبير باشا
مدون، متخصص في إدارة المخاطر الاقتصادية والإستراتيجية
“أعلن جهاز المخابرات السوداني، الثلاثاء الماضي، عن اكتشاف مصنع لإنتاج الحبوب المخدرة في منطقة مصفاة النفط بالخرطوم بحري ينتج 100 ألف حبة من الكبتاغون في الساعة وتعود ملكيته لقوات الدعم السريع
جهاز المخابرات السوداني يكتشف مصنعا لإنتاج الحبوب المخدرة في منطقة مصفاة النفط بالخرطوم تعود ملكيته لقوات الدعم السريع (مواقع التواصل)
في 12 أغسطس/ آب 2025، نشر معهد نيو لاينز الأميركي تقريرا مطولا حمل عنوان: “بروز السودان كمركز جديد للكبتاغون”.. حاول التقرير أن يصور السودان وكأنه دخل نادي الدول الراعية لتجارة المخدرات الصناعية، وأن الحرب الأهلية قد حولت بلادنا إلى نسخة مكررة من سوريا الأسد.
ورغم غلافه البحثي، فإن مضمون التقرير يكشف عن أجندة سياسية واضحة: ضرب شرعية الدولة السودانية وتشويه صورتها في لحظة مصيرية من معركتها مع مليشيا الدعم السريع المتمردة.
التقرير لم يكتفِ بعرض بيانات، بل انزلق إلى مقارنة خطيرة ومقصودة: مساواة السودان بسوريا الأسد

قلب الحقائق
أول ما يثير الانتباه في التقرير هو الانتقائية المفضوحة في عرض الوقائع؛ فالمختبرات التي تم ضبطها في الخرطوم لم تُنشئها الدولة السودانية ولا الجيش السوداني، بل كانت تحت مظلة انتشار مليشيا الدعم السريع أثناء احتلالها أحياء العاصمة.
وعندما استعاد الجيش السوداني السيطرة، بادر إلى مصادرة المعدات وتعطيل الإنتاج، في خطوة تؤكد التزامه بمكافحة المخدرات لا رعايتها.
لكن التقرير تعمد أن يصور المشهد كما لو أن السودان الرسمي هو من يدير هذه الأنشطة، ليدفع القارئ الدولي إلى الاستنتاج الخطأ: أن الحكومة الشرعية شريكة في تجارة الكبتاغون! هذا تزوير متعمد يخلط بين الفاعل الحقيقي (المليشيا) والدولة التي تحاربها.
أجندة التشبيه المضلل
التقرير لم يكتفِ بعرض بيانات، بل انزلق إلى مقارنة خطيرة ومقصودة: مساواة السودان بسوريا الأسد.. الهدف من هذه المقارنة واضح:
فتح الباب أمام شيطنة السودان دوليا، وإلحاقه بدائرة العقوبات والعزلة.
تقويض الدعم الإقليمي والدولي للجيش السوداني عبر تصويره كنسخة جديدة من “نظام راعٍ للمخدرات”.
تعويم رواية تساوي بين الدولة الشرعية والمليشيا المتمردة، بحيث يُفرض على السودانيين “حل وسط” يشرعن الانقلاب المليشياوي.
القراءة المنصفة للبيانات تكشف العكس: أن السودان -برغم ظروف الحرب وانهيار البنية الأمنية- ما زال قادرا على كشف وتفكيك هذه الأنشطة
الأرقام لا تقول ما يقوله التقرير
يعتمد التقرير على إحصائية منسوبة لقاعدة بيانات مصادرة الكبتاغون: 19 حادثة ضبط خلال عشر سنوات، بينها 3 مختبرات. هذه الأرقام -حتى لو صحت- ضئيلة مقارنة بما كُشف في سوريا أو لبنان أو حتى العراق وتركيا. لكن نيو لاينز ضخمها، وصاغ منها حكاية “مركز عالمي ناشئ”!
القراءة المنصفة للبيانات تكشف العكس: أن السودان -برغم ظروف الحرب وانهيار البنية الأمنية- ما زال قادرا على كشف وتفكيك هذه الأنشطة. بدلا من الإشادة بهذا الجهد، يحوَّل إلى دليل إدانة، وهذا الفعل هو قمة التلاعب.
السياق السياسي وراء التقرير
لا بد أن نقرأ التقرير في سياق أوسع:
هناك حملة إعلامية منظمة تستهدف الجيش السوداني منذ دحر المليشيا عن الخرطوم.
هناك محاولة لتجريد السودان من شرعية مقاومته للغزو المليشياوي عبر وصمه بالفساد وتجارة المخدرات.
هناك رغبة في إيجاد “بديل للسردية السورية” بعد سقوط نظام الأسد؛ والسودان يوفر مادة خام لإعادة تدويرها في غرف صناعة السرديات الغربية.
إذن، فالمسألة ليست “بحثا علميا”، بل سردية سياسية مدفوعة الثمن، هدفها تهيئة الأرضية لخطوات ضغط دولي جديدة.
أهي صدفة أن يظهر “تقرير بحثي” يساوي بين الجيش والمليشيا في هذا التوقيت، أم إن الغرض هو تجريد السودان من رصيده الأخلاقي والسياسي أمام الرأي العام الدولي؟
السودان: ضحية لا راعٍ
الحقيقة التي يتجاهلها التقرير أن السودان ليس بلدا راعيا للمخدرات، بل ضحية لهذه التجارة:
مليشيا الدعم السريع -التي ارتكبت جرائم حرب موثقة- هي التي أدارت هذه الأنشطة لتمويل نفسها، بعد أن استنزفت ذهب دارفور، ونهبت البنوك والمستودعات.
الجيش السوداني، بدعم شعبي واسع، هو الذي اكتشف وأوقف هذه المصانع.
المجتمع السوداني نفسه يعاني من نتائج هذه التجارة، إذ تستغل المليشيا ضعف الدخل وانعدام الأمن الغذائي لتسويق “حبوب الهروب” للشباب.
الدرس القانوني والسياسي
تجارب العالم واضحة: من كولومبيا إلى أفغانستان، تجارة المخدرات تتغذى على غياب الدولة، وتنهار حين تستعيد مؤسسات الدولة سيطرتها.
السودان اليوم يعيد إنتاج هذه التجربة: كلما استعاد الجيش السيطرة على إقليم أو مدينة، تلاشى معها نشاط المليشيا في المخدرات. هذه هي القصة الحقيقية التي كان يجب أن تروى.
السودان اليوم يخوض حربا على جبهتين: جبهة ضد مليشيا تريد تمزيقه، وجبهة ضد اقتصاد إجرامي عابر للحدود.. محاولات التشويه لن تغير هذه الحقيقة، بل ستكشف أكثر فأكثر حجم التواطؤ الدولي مع مشروع المليشيا
لماذا الآن؟
نُشر التقرير في لحظة مفصلية: بعد أن نجح الجيش السوداني في دحر المليشيا من الخرطوم، واستعاد المبادرة الميدانية؛ وهنا يأتي السؤال: أهي صدفة أن يظهر “تقرير بحثي” يساوي بين الجيش والمليشيا في هذا التوقيت، أم إن الغرض هو تجريد السودان من رصيده الأخلاقي والسياسي أمام الرأي العام الدولي؟
دعوة لموقف موحد
إن تقرير نيو لاينز ليس دراسة محايدة، بل جزءا من حملة تستهدف السودان.. المطلوب اليوم أن تتحرك الحكومة السودانية بوزاراتها المختلفة (الإعلام والخارجية ورئاسة الوزراء) بخطاب واضح ومنسق، بلغات متعددة، يضع النقاط على الحروف ليوضح:
أن السودان يحارب هذه الظاهرة لا يرعاها.
أن قوات الدعم السريع هي الفاعل الحقيقي في تجارة الكبتاغون.
أن المقارنة مع سوريا باطلة ومغرضة.
السودان اليوم يخوض حربا على جبهتين: جبهة ضد مليشيا تريد تمزيقه، وجبهة ضد اقتصاد إجرامي عابر للحدود.. محاولات التشويه لن تغير هذه الحقيقة، بل ستكشف أكثر فأكثر حجم التواطؤ الدولي مع مشروع المليشيا.