الصراع الخفي: بين الأوراسي والخزري….من يحكم مفاتيح العالم
أسامينا
حين ننزع الغشاوة عن المشهد الدولي وننظر إلى اللوحة الكبرى، نكتشف أن الصراع الذي يملأ الدنيا ضجيجًا ليس مجرد خلاف بين دول متباعدة أو حضارات متناقضة، بل هو صراع بين نظامين عميقين الجذور، كلاهما يملك سردية خاصة ورؤية كونية للهيمنة، أحدهما هو النظام الروسي–الأوراسي الذي يستمد قوته من الامتداد الجغرافي الهائل والتاريخ الإمبراطوري للقيصرية ثم التجربة السوفيتية وأخيرًا المشروع البوتيني، والآخر هو النظام الخزري العالمي الذي تحوّل عبر القرون من قبيلة محصورة إلى شبكة مالية وسياسية عابرة للقارات تسيطر على مراكز الإعلام والبنوك والمنظمات الدولية. إنهما ليسا خصمين بالمعنى التقليدي بل خصمان على عرش واحد: من يملك الموارد الكبرى، من يتحكم بالطرق العالمية، ومن يفرض القرار السياسي على بقية الأمم.
النظام الأوراسي يرى أن الجغرافيا هي القدر، وأن من يسيطر على اليابسة الممتدة من شرق أوروبا حتى المحيط الهادئ هو من يمسك قلب العالم، لذلك يعيد صياغة تحالفاته ويعيد انتشار جيوشه على أساس أن البر هو الأساس والبحر مجرد هامش. في المقابل، النظام الخزري العالمي يعتبر أن المال هو اللغة الوحيدة للسيطرة، وأن من يمسك بالمصارف المركزية وسلاسل التجارة وأسواق الطاقة هو من يقرر مصير الشعوب، ولذلك لم يعد بحاجة إلى مساحات أرضية بقدر حاجته إلى شبكات مالية وإعلامية تُخضع الحكومات بقرارات من مؤسسات تبدو محايدة، لكنها في العمق أدوات في خدمة هذه المنظومة.
الصراع بين هذين النظامين ليس صراعًا أيديولوجيًا كما يظن الكثيرون، بل هو صراع على أدوات السيطرة، الأوراسي يستخدم القوة الصلبة: جيوش، حدود، ممرات، قواعد، فيما الخزري يعتمد على القوة الناعمة: قروض، أزمات مالية مصطنعة، عقوبات، ومن ثم تسويق “القانون الدولي” كوسيلة شرعنة للهيمنة. ومن يتأمل يجد أن كليهما ينطلقان من جذر سلافي واحد، فالخزر الذين تبنوا هوية صهيونية لاحقًا، هم فرع سلافي تاريخيًا، وبالتالي فالمواجهة ليست بين “شرق وغرب” بالمعنى الحضاري، بل بين نخب متشابهة في العِرق والثقافة إلى حد بعيد، تتصارع على من يحتكر مفاتيح اللعبة.
ولعل المثال الأوضح على ذلك أن روسيا لم تجرؤ يومًا على إلغاء الحكم الذاتي لبوروبيجان، ذلك الإقليم الممنوح لليهود منذ أيام ستالين بمساحة تضاهي سويسرا، رغم كل الشعارات عن المواجهة مع الصهيونية. لو كان العداء جوهريًا كما يُسوَّق، لكان أول إجراء هو محو هذا الامتياز التاريخي، لكن بقاءه يكشف أن اللعبة أعمق، وأن التناقضات المعلنة ليست سوى واجهة تخفي تقاطع مصالح وصراعًا على السلطة لا أكثر.
إن العالم بأسره يُدار اليوم بين هذين القطبين غير المعلنين رسميًا، الأوراسي يحاول بناء تكتلاته عبر منظمة شنغهاي وبريكس وممراته البرية والطاقية، فيما الخزري العالمي يرد عبر السيطرة على المؤسسات المالية الكبرى كصندوق النقد والبنك الدولي ومجالس الاحتياط الفدرالية والبورصات. وفي هذه المواجهة، لا مكان للعاطفة ولا للدين ولا للشعارات، بل الأمر كله يتعلق بالموارد والطرق والقرار السياسي، أي بمن يحدد الأسعار، ومن يرسم الخطوط، ومن يضع الشروط.
ما يُعرض على الشعوب من صراعات جانبية ليس سوى ضجيج يخفي المعركة الحقيقية. فالعالم اليوم يقف أمام مواجهة بين الأوراسي الذي يريد استعادة مركز الأرض إلى قبضته، والخزري العالمي الذي يريد إبقاء القبضة المالية والإعلامية في يده. وبينهما تُدار مسارح جانبية، لكنها في النهاية ليست سوى واجهات لصراع جوهره واحد: من يملك الحق في أن يقول للعالم “هذا هو الطريق”، ومن يفرض على الجميع أن يسيروا فيه. إن فهم هذه الحقيقة هو الخطوة الأولى للخروج من وهم الحروب الصغيرة إلى إدراك الحرب الكبرى التي تُصاغ من فوق رؤوسنا.