Home / أخبار سوريا / جمال يتنفس سمّاً ..دمشق مدينة الياسمين تحتاج ثورة لاستعادة بيئتها المنهكة بقلم الدكتورة زبيدة القبلان

جمال يتنفس سمّاً ..دمشق مدينة الياسمين تحتاج ثورة لاستعادة بيئتها المنهكة بقلم الدكتورة زبيدة القبلان

جمال يتنفس سمّاً ..دمشق مدينة الياسمين تحتاج ثورة لاستعادة بيئتها المنهكة
بقلم الدكتورة زبيدة القبلان

تصور نفحةً من الياسمين تزين أزقة دمشق القديمة، تصافح حجارةً روتها آلاف السنين، وتحتضن أروقةً شهدت مولد الحضارات.
دمشق، أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، “الفردوس المفقود” كما وصفها الغزاة، “جوهرة الشرق” التي أسرت القلوب بعبق تاريخها ونقاء هوائها.
لكن تحت هذا الرداء الساحر من الذكريات والشعر، تنبض اليوم مدينة منهكة، تختنق ببطء تحت وطأة كابوس بيئي حوّل جنة الأرض إلى بقعة تكافح من أجل البقاء.
ليست مجرد مدينة تعاني التلوث
هذه ليست مجرد مدينة تعاني من التلوث؛ إنها نسيج حي يغرق في سموم صنعتها يد الإنسان والصراع، حيث صار الهواء سمّاً مرئياً، والماء تهديداً خفياً، والأرض جرحاً ملوثاً.
في هذه المقالة دعونا نغوص في تفاصيل دقيقة، تحيط بدمشق من نشأتها الأولى حتى واقعها المرير في عام 2025، لنفهم كيف تحولت “مدينة الياسمين” إلى نموذج صارخ لأزمة بيئية تهدد صلاحيتها الأساسية للحياة.
ولابد بداية أن نسلط الضوء على:
النشأة والعهود الذهبية (آلاف السنين قبل الميلاد – منتصف القرن 20):
ونمر في الموقع المثالي لدمشق كواحة خصبة تغذيها ينابيع غزيرة (مثل نبع الفيجة) ونهر بردى وفروعه السبعة (التيارات)، محاطة بسلاسل جبلية (جبل قاسيون) توفر حماية طبيعية ومناخاً معتدلاً نسبياً.
نقاء بيئي تاريخي:
العاصمة دمشق تميزت بنظافة هوائها نتيجة موقعها المنفتح ورياحها التي تنقي الجو، وجودة مياهها المتدفقة من الينابيع والأنهر، وخصوبة أراضيها الزراعية المحيطة (الغوطة).
و كانت أنظمة الري (قنوات، سواقي) ونقل المياه (قناة رومانية) تدل على حضارة متقدمة في إدارة الموارد.
وحول الاستدامة التقليدية: اعتمدت مدينة دمشق على الزراعة المحيطة (الغوطة) بشكل رئيسي، وكان التلوث الصناعي شبه معدوم.
أما النفايات كانت عضوية في الغالب ويتم التخلص منها بطرق بدائية لكن أقل ضرراً بسبب قلة الكثافة السكانية والمواد المصنعة.
نصل في مقالنا إلى الشق الأهم وهو بذور الأزمة، عندما بدأ التوسع والتصنيع (منتصف القرن 20 – 2011).
ومن ثم الانفجار السكاني: تضاعف عدد السكان بشكل هائل، خاصة مع الهجرة من الريف، مما ضغط على البنية التحتية ووسع الرقعة العمرانية على حساب الغوطة.
أيضاً تراجع الزراعة وضمور الغوطة، عندما تحولت مساحات كبيرة من الغوطة الخضراء إلى أحياء سكنية عشوائية ومناطق صناعية، قلصت الرئة الخضراء للمدينة ومصدر الأكسجين الطبيعي.
وهنا كانت دمشق على موعد مع بداية التلوث الصناعي عند ظهور مناطق صناعية (مثل عدرا الصناعية، الصناعات التحويلية في مناطق متفرقة) بدون معالجة كافية للانبعاثات (غازات سامة، غبار) أو للمخلفات السائلة، واستخدام وقود رديء النوعية في المصانع والمركبات.
وعانت وتعاني دمشق من تلوث هوائي متزايد، والسبب زيادة عدد المركبات بشكل كبير (خاصة القديمة والمتهالكة)، واستخدام البنزين المحتوي على الرصاص، انبعاثات المصانع، وحرق النفايات المفتوحة في بعض المناطق بدأت تؤثر على جودة الهواء، خاصة في المناطق الصناعية والمرورية الكثيفة.
لاشك أن التدهور البيئي خلف وراءه تحديات في إدارة النفايات، تمثلت في عجز أنظمة جمع ومعالجة النفايات الصلبة عن مواكبة الكميات المتزايدة، مما أدى إلى ظهور مكبات عشوائية وحرق غير مراقب.
ناهيك عن استنزاف الموارد المائية من خلال الضخ الجائر من نبع الفيجة وطبقات المياه الجوفية لتلبية احتياجات المدينة المتزايدة، مع تلوث تدريجي لمياه بردى بسبب الصرف الصحي والصناعي غير المعالج بالكامل، حيث بدأت مشاكل الملوحة والجفاف تظهر.
الضوضاء: زيادة حادة في الضوضاء البيئية بسبب المرور والبناء والعمران المكثف.
ونصل في مقالنا إلى حيث وصلت الكارثة البيئية بسبب الحرب وتداعياتها (2011 – 2025):
و ماحصل في ظل الحرب والحصار والعقوبات، انهيار البنية التحتية (الضربة القاضية).
التلوث بالصرف الصحي
ومنها الصرف الصحي، بعد تدمير أو توقف محطات معالجة مياه الصرف الصحي الرئيسية (مثل محطة دمر). تصريف ملايين الأمتار المكعبة من المياه العادمة غير المعالجة بشكل مباشر إلى مجاري الأنهار (بردى والأعوج) ووديان الغوطة، وهذا هو المصدر الأكبر والأخطر للتلوث المائي والتربة.
أما المياه الصالحة للشرب، فقد تضررت شبكات التوزيع وازداد التلوث المتبادل بين شبكات الصرف الصحي المتضررة وشبكات مياه الشرب، مما أدى إلى تلوث مصادر الشرب الأساسية.
وبالتالي الاعتماد المتزايد على مياه الآبار الجوفية (المهددة بالتلوث من المياه العادمة المتسربة) مع نقص الكلورة والتعقيم الموثوق.
إدارة النفايات الصلبة
بالنسبة لشق إدارة النفايات الصلبة، فقد توقف معظم أنظمة الجمع المنظم في العديد من المناطق لسنوات، ونلاحظ تكدس جبال من النفايات في الشوارع والساحات والمكبات العشوائية، ناهبك عن استمرار حرق النفايات (بما فيها مواد بلاستيكية وسامة) في الهواء الطلق، مصدر رئيسي للديوكسينات والفيورانات المسرطنة والجسيمات الدقيقة الخطيرة (PM2.5, PM10).
فيما يتعلق بالطاقة، شهدت دمشق انهيار شبكة الكهرباء الوطنية، والاعتماد الشبه كلي على مولدات الديزل الخاصة (الآلاف) في كل حي وبناء ومؤسسة. هذه المولدات تعمل 24/7 غالباً، وتحرق وقوداً رديئاً (مازوت أحياناً) بدون أي معالجة للعوادم، مصدر رئيسي للتلوث الهوائي المكثف (ثاني أكسيد الكبريت SO2, أكاسيد النيتروجين NOx, الجسيمات الدقيقة السوداء، الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات PAHs المسرطنة)، كما أن جودة الهواء في المناطق السكنية الكثيفة أصبحت أسوأ بمراحل من أي معيار عالمي.
حول التلوث الهوائي المتصاعد تشير المعطيات وأصابع الإتهام إلى:
مولدات الديزل (المصدر الأول حالياً).
حرائق مستمرة في مكبات النفايات العشوائية والمخلفات.
غبار الهدم والبناء المستمر لإعادة الإعمار (بدون رش بالماء).
قلة الغطاء النباتي (تدمير الغوطة بشكل شبه كامل بسبب القصف والحرق والتحضر العشوائي).
استمرار استخدام وقود رديء في المركبات القليلة العاملة.
والنتيجة: ضباب دخاني دائم (Smog)، رائحة الديزل والحرق في كل مكان، مستويات خطيرة من الجسيمات الدقيقة والملوثات الغازية تؤدي إلى تفاقم أمراض الجهاز التنفسي (ربو، التهابات رئوية، سرطانات) والقلب.
التلوث المائي .. وصف بالكارثي
يعاني نهر بردى وفروعه ومجاري الوديان بمياه من التلوث بسبب الصرف الصحي غير المعالجة بشكل مباشر ومكثف، وقد تحولت إلى مجاري مكشوفة.
كذلك تلوث المياه الجوفية بالتسربات من مجاري الصرف والمكبات، وأيضاً تلوث مياه الشرب في الشبكة بسبب التبادل مع مياه الصرف في الأنابيب المتضررة ونقص التعقيم.
والنتيجة:انتشار واسع للأمراض المنقولة بالماء (تيفوئيد، كوليرا، التهاب الكبد الوبائي أ، إسهالات حادة) خاصة بين الأطفال، إضافة لعدم صلاحية مياه الشبكة للشرب حتى بعد الغلي في كثير من الأحيان، والاعتماد الباهظ على المياه المعبأة (غير مضمونة الجودة دائماً).
وحتى التربة لم تسلم من تلوث مرير، وهو يتعلق بامتصاص التربة للمياه العادمة غير المعالجة المحملة بالمعادن الثقيلة والمركبات العضوية الخطرة والكائنات الدقيقة المرضية.
كذلك تراكم النفايات الصلبة والخطرة (بما فيها نفايات طبية) في مكبات عشوائية، وبقايا مواد البناء والهدم المحتوية على أسبستوس أو مواد ضارة.
والنتيجة: تسمم المحاصيل المتبقية في الغوطة (إن وجدت)، مخاطر على صحة السكان خاصة الأطفال الذين يلعبون في مناطق ملوثة، صعوبة إعادة تأهيل الأراضي.
التلوث الإشعاعي (مخاوف): استخدام أسلحة تقليدية محتوية على يورانيوم منضب في بعض جولات القصف (مثبت في تقارير دولية مثل تقارير منظمة “باكس الهولندية” PAX)، مما يثير مخاوف من تلوث تربة طويل الأمد في مناطق محددة، رغم عدم وجود مسح شامل. هذا يزيد من القلق الصحي (سرطانات، تشوهات خلقية).
الضوضاء المزمنة: ضجيج مولدات الديزل المستمر (أعلى من 85 ديسيبل في كثير من الأحيان) بالإضافة إلى أصوات البناء والمرور، مما يسبب إجهاداً سمعياً وعصبياً للسكان.
الواقع في 2025: استمرار الأزمة وغياب الحلول الجذرية:
استمرار المسببات: لا تزال مولدات الديزل هي العمود الفقري لتوليد الكهرباء في معظم أحياء دمشق. لا تزال محطات معالجة الصرف الصحي الرئيسية (مثل دمر) خارج الخدمة أو تعمل بقدرة محدودة جداً. استمرار ضخ ملايين الأمتار المكعبة من المياه العادمة غير المعالجة إلى الأنهار والوديان. إدارة النفايات الصلبة لا تزال تعاني من الفوضى والحرق العشوائي في العديد من المناطق، رغم تحسن طفيف في الجمع في المركز.
تدهور صحي حاد: استمرار ارتفاع معدلات أمراض الجهاز التنفسي (خاصة بين الأطفال وكبار السن)، أمراض الجهاز الهضمي المرتبطة بالمياه الملوثة، السرطانات (مع اشتباه قوي بعلاقته بالتلوث البيئي المزمن)، الإصابات الجلدية. نقص الأدوية والرعاية الصحية يزيد الطين بلة.
أزمة مياه الشرب
وعلينا أن نشير إلى أن دمشق تعاني من أزمة مياه شرب مستعصية: المياه من الشبكة لا تزال غير آمنة للشرب المباشر في معظم المناطق. الاعتماد المستمر والمكلف على المياه المعبأة يرهق المواطنين اقتصادياً، وجودتها غير مضمونة دائماً. نقص حاد في المياه الصالحة لأغراض النظافة الشخصية والمنزلية.
لكن ثمة تراكم للملوثات الخطرة يتعلق استمرار تراكم الملوثات العضوية الثابتة (مثل الديوكسينات من حرق النفايات) والمعادن الثقيلة في التربة والرواسب، مما يشكل تهديداً طويل الأمد للبيئة والصحة.
لاشك أن كل ما تحدثنا عنه يترافق مع غياب الرقابة والبيانات، في ظل عدم وجود نظام رقابي بيئي فعال. غياب شبه تام لبيانات رصد جودة الهواء والمياه بشكل منهجي وعلني وموثوق.
كما أن التقارير الحكومية عن “تحسن” تتناقض مع الواقع الملموس وتقا،رير المنظمات الدولية والمحلية المستقلة.
ومن أحد العوامل الأشد هو عدم صلاحية العيش،
ومثال على ذلك الهواء اصبح هواء خانق ومسموم بشكل يومي (خاصة بالجسيمات الدقيقة وأكاسيد الكبريت والنيتروجين)، يتجاوز الحدود الآمنة بمراحل مضاعفة.
كذلك الماء: غياب مصدر ماء شرب آمن وموثوق في المنزل، والتربة ملوثة تهدد الصحة وتقوض الزراعة المحلية، ناهيك عن الضوضاءمن ضجيج مستمر يسبب الإجهاد والأرق.
أما بالنسبة للصحة تعاني بيئة موبوءة بالأمراض المعدية والمزمنة المرتبطة بالتلوث، أما العامل النفسي مرتبط بالعيش وسط الدمار البيئي المستمر يسبب إحباطاً واكتئاباً وجموداً.

أخيراً..
دمشق اليوم، تتطلب ثورة في استعادة البيئة وإصلاح البنية التحتية الحيوية المنهكة، وهو تحدٍ هائل في ظل الظروف الراهنة، فالمدينة التاريخية تتنفس بصعوبة، وحلم عودتها إلى سابق عهدها كجنة للعيش يبدو بعيد المنال في الأفق المنظور.

وفقاً لتقارير الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها.

Tagged:

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *