Home / مشكلة وحل / مجتمع / خردة الطفولة: مافيات النفايات تجند أطفال سوريا في جحيم المكبات

خردة الطفولة: مافيات النفايات تجند أطفال سوريا في جحيم المكبات

أسامينا _ خاص

في ظل صمت العالم المطبق، تتحول مكبات النفايات السورية إلى جحيم يومي لآلاف الأطفال، ضحايا شبكات إجرامية منظمة لا ترحم. “خردة الطفولة” أصبحت سلعة رابحة في سوق الحرب السوداء، حيث تُجند مافيات متخصصة الأطفال الأكثر هشاشة وحاجة، ليبحثوا وسط السموم والمخاطر عن أي شيء يمكن بيعه، بينما تبتلع عائدات كدحهم جيوب تجار الحرب والفساد.

آلية الاستغلال: من الفقر إلى العبودية الحديثة:

  1. التجنيد: تعمل هذه الشبكات في مناطق سيطرة النظام والمعارضة على حد سواء، مستغلة الفقر المدقع الذي يعصف بأكثر من 90% من السوريين حسب الأمم المتحدة. يتوجه “المجندون” إلى الأسر الأكثر فقراً في المخيمات العشوائية (مثل تلك في إدلب والشمال السوري) أو أطراف المدن المدمرة (كحلب وحمص ودرعا)، ويقدمون وعوداً زائفة بدخل ثابت أو “فرصة عمل” لتأمين قوت العائلة.
  2. نظام السخرة والديون: غالباً ما يبدأ الأمر بـ “قروض” صغيرة أو “مساعدات” تقدم للأسر. يتحول هذا الدين بسرعة إلى وسيلة ضغط لا يمكن الفكاك منها. يُجبر الأطفال على العمل لسداد ديون عائلاتهم التي تتضخم بفائدة فاحشة.
  3. العمل في الجحيم: يُنقل الأطفال فجراً في شاحنات مكتظة إلى مكبات النفايات الضخمة أو المقالب العشوائية الخطيرة. يعملون لساعات طويلة (10-12 ساعة يومياً) تحت أشعة الشمس الحارقة أو البرد القارس، بدون أي معدات وقائية.
  4. الاستخراج والابتزاز: مهمتهم نبش أكوام القمامة المختلطة (عضوية، كيميائية، طبية، إلكترونية) باستخدام العصي أو الأيدي العارية، بحثاً عن:
    المعادن (نحاس، ألمنيوم، حديد) لبيعها كخردة.
    البلاستيك القابل لإعادة التدوير.
    أي مواد قابلة لإعادة البيع (ملابس مستعملة، أجهزة إلكترونية تالفة).
    بقايا طعام قد تكون فاسدة.
  5. السلب المنظم: يجمع الأطفال ما يعثرون عليه. يأتي ممثلو المافيا في نهاية اليوم لشراء “الغنيمة” بأسعار زهيدة جداً (أقل بكثير من سعر السوق)، لا تكاد تذكر مقارنة بالمخاطر. أي محاولة للاحتجاج أو الاحتفاظ بشيء تعرض الطفل للضرب أو الحرمان من العمل أو خصم من “الدين”.

المخاطر: طفولة تُدفن تحت النفايات

التسمم والمرض: التعرض المباشر للمواد الكيميائية السامة (مبيدات، أحماض، بطاريات)، النفايات الطبية (إبر، ضمادات ملوثة)، الغازات المنبعثة من النفايات المتحللة (مثل الميثان وكبريتيد الهيدروجين). يؤدي هذا إلى أمراض جلدية خطيرة، تسممات حادة ومزمنة، أمراض تنفسية (ربو، التهابات رئوية)، وإصابات في الجهاز الهضمي. تقارير منظمات طبية في شمال سوريا تشير إلى ارتفاع مقلق في سرطانات الأطفال في مناطق المكبات.
الإصابات الجسدية: جروح قطعية من الزجاج أو المعادن الحادة، كسور من انهيار أكوام النفايات، عضات الحيوانات الضالة (كلاب، جرذان) التي تنتشر في المكبات، خطر الاختناق.
الاستغلال الجنسي والعنف: تقارير منظمة “سايف ذي تشيلدرن” تشير إلى تعرض الأطفال، وخاصة المنفصلين عن عائلاتهم أو الأيتام، للتحرش والاعتداء الجنسي من قبل مشرفي المافيا أو عناصر أخرى في هذه البيئة القانونية. الضرب والإهانة أمر شبه يومي.
الحرمان من التعليم: العمل الشاق يستهلك طاقة الأطفال ووقتهم، مما يدفعهم للتسرب من المدارس أو عدم الالتحاق بها أصلاً، محكومين بمستقبل مظلم.
الصدمات النفسية: العيش والعمل في بيئة قذرة وخطيرة ومهينة، مع التعرض المستمر للعنف، يسبب صدمات نفسية عميقة، اكتئاباً، قلقاً، وقد يؤدي إلى سلوكيات عدوانية أو انسحابية.

المسؤولية: فشل متعدد المستويات

  1. السلطات المحلية (نظام ومعارضة) فشل ذريع في: تطوير أنظمة فعالة لجمع النفايات ومعالجتها بشكل آمن.
    تطبيق القوانين التي تحظر تشغيل الأطفال، خاصة في الأعمال الخطرة.
    محاربة الفساد والسماح لشبكات المافيا بالعمل بحرية.
    توفير بدائل اقتصادية للأسر الفقيرة وحماية اجتماعية للأطفال.
  2. المجتمع الدولي: انخفاض التمويل المخصص للاستجابة الإنسانية في سوريا بشكل كبير. تقول الأمم المتحدة إن خطة الاستجابة لعام 2025 لم تمول سوى بجزء بسيط مما هو مطلوب. هذا التقصير يجبر المزيد من الأسر على اللجوء لخيارات يائسة وخطيرة، كتسليم أطفالها لشبكات الاستغلال. غياب آلية دولية فعالة لمحاسبة المتورطين في استغلال الأطفال اقتصادياً وجنسياً في مناطق الصراع.
  3. اقتصاد الحرب: استفادت فصائل متعددة من الحرب في سوريا لبناء اقتصادات موازية قائمة على الفساد والابتزاز والاتجار بكل شيء، بما في ذلك البشر. أصبح استغلال الأطفال في قطاعات مثل النفايات جزءاً من هذا الاقتصاد المشين.

شهادات تكسر الصمت (أسماء مستعارة لحماية الأطفال)

يوسف (12 سنة) – مخيم بإدلب: “أبي مريض ولا يستطيع العمل. أذهب للمزبلة مع صبيان كثيرين. نبحث عن نحاس وبلاستيك. الرجل الكبير (المشرف) يضربنا إذا لم نأتي بما يرضيه. مرة انهارت كومة قمامة عليّ، كسرت رجلي. ما زلت أعمل لأننا بحاجة للخبز. أشم رائحة كريهة دائماً وأتقيأ كثيراً.”
أم أحمد (والدة طفلين يعملان في المكب): “أعلم أنهم يموتون رويداً رويداً. ولكن ماذا أفعل؟ لا مساعدات تصلنا. الدين يزداد. إذا لم يذهبا، سيأتي الرجال ويأخذون آخر ما نملك، خيمتنا الصغيرة. أشعر أنني أخون أطفالي كل يوم.”

نداء إلى ضمير العالم:

قصة أطفال مكبات النفايات السورية ليست مجرد مأساة إنسانية أخرى في صراع طال أمده. إنها جريمة منظمة ترتكب في وضح النهار. إنها صفعة على وجه الإنسانية. مشاهدة طفل ينبش في القاذورات بحثاً عن قوت يومه بينما تتقاطر عرق جهده إلى جيوب المجرمين، يجب أن توقظ غضب العالم.

مطلوب من المجتمع الدولي: زيادة التمويل الإنساني بشكل عاجل وضمان وصوله لمستحقيه، مع التركيز على برامج الحماية الاجتماعية للأطفال ودعم سبل العيش للأسر لمنع استغلالهم. فرض عقوبات على الأفراد والكيانات المالية الداعمة لشبكات استغلال الأطفال في سوريا، بمن فيهم أولئك المرتبطون بالسلطات. دعم آليات التوثيق والمحاسبة للجرائم المرتكبة ضد الأطفال، بما فيها الاستغلال الاقتصادي.
مطلوب من السلطات الفاعلة على الأرض (أياً كانت) تفعيل قوانين منع تشغيل الأطفال، خاصة في الأعمال الخطرة مثل النفايات. تطوير أنظمة مستدامة وآمنة لإدارة النفايات. محاربة الفساد وملاحقة قادة هذه الشبكات الإجرامية. توفير التعليم المجاني الجاذب وبرامج إعادة التأهيل للأطفال الضحايا.
مطلوب من كل ضمير إنساني: عدم الصمت. نشر هذه المأساة. الضغط على الحكومات والمنظمات الدولية لاتخاذ إجراءات فورية. دعم المنظمات الموثوقة التي تعمل مباشرة على حماية الأطفال في سوريا وتقديم الدعم النفسي والطبي والتعليمي لهم.

أطفال سوريا، الذين مزقت الحرب براءتهم، يدفعون الآن ثمن بقاء العالم صامتاً أو متقاعساً. تحولوا من ضحايا القذائف إلى عبيد في مكبات النفايات، تُسرق طفولتهم قطعة خردة تلو الأخرى تحت سمع وبصر الجميع. استمرار هذه الجريمة ليس حتمية. إنه خيار. خيار للفساد، للجشع، لللامبالاة. حان الوقت لأن يهز هذا المشهد المروّع ضمير العالم من سباته، وأن تتحول الصدمة والأسى إلى فعل حقيقي لانتشال هؤلاء الأطفال من جحيم النفايات، قبل أن تدفن طفولتهم إلى الأبد تحت ركام الإهمال والاستغلال. مستقبل سوريا يُنهب يومياً بين أكوام القمامة، وإذا لم نتحرك الآن، فسنكون جميعاً شركاء في الجريمة.

Tagged:

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *