سقوط الرأس الحديدي وبداية حرب الخوارزميات
أسامينا
كل ما نراه اليوم من تحركات، تصريحات، استثمارات، وانعطافات سياسية ما هو إلا فصول من مسرحية النهاية لنظامٍ عمره أكثر من قرن. الصهيونية التي كانت تحكم من وراء الستار، وتتحكم بالمال والإعلام والقرار، وصلت اليوم إلى لحظة الانكشاف. لا لأنها ضعفت فجأة، بل لأن الساحة تغيّرت، والعصر تبدّل، ومنطق القوة انتقل من الأرض إلى السرد.
من زمان ونحن نقول إن “إسرائيل الكبرى” ليست مشروعًا جغرافيًا، بل فكرة ذهنية؛ هدفها خلق إنسان صهيوني، يخضع برضا تحت منظومة رقمية تدار بالخوارزميات، ويتحرك ضمن نظام عالمي جديد، يُعيد تعريف الحرية والدين والمعرفة. النتن ياهو لم يكن إلا آخر حارس لمعبدٍ يتداعى، ورجل المرحلة الانتقالية بين “إسرائيل الحديدية” و”إسرائيل الرقمية”. لذلك، كل ما يقوم به الآن من تحركات اقتصادية واستثمارات إعلامية ليس صدفة، بل محاولة يائسة لنقل مشروعه من ساحة الحرب إلى ساحة الوعي، من المدفع إلى الهاتف، من الدبابة إلى التيك توك ومنصة X.
لكن لماذا الأمريكي يتركها تغرق؟ لأن واشنطن اليوم ليست واحدة، هناك دولتان داخل دولة: أمريكا الكابالاه التي خدمت الصهيونية، وأمريكا السيادية التي قررت فكّ الارتباط. هذه الأخيرة فهمت أن المشروع الصهيوني لم يعد ورقة رابحة، بل عبء ثقيل يهدد الإمبراطورية نفسها. فبدأت بعملية تفكيك هادئة، لا تقتل الرأس دفعة واحدة، بل تدفنه في الرمال المتحركة.
الأمريكي لا يسعى لتدمير إسرائيل، بل لاستنزافها؛ يريدها أن تبقى جرحًا مفتوحًا في قلب الشرق الأوسط، لتشعل صراعاتٍ لا تنتهي، وتبرر وجوده كـ”حَكَمٍ” بين المتنازعين. أما أوروبا، فقصتها أعمق؛ الصهيونية تمسك برقبتها منذ عقود عبر عقدة الذنب والحرب الثانية، وعبر الإعلام والمال والمصارف. لذلك، بدأ الأمريكي يفكّ الرقبة قطعةً قطعة: قطع عنها الغاز الروسي، أغرقها بالتضخم والمهاجرين، هشّم وحدتها، ليس “ليحررها حبًا بها”، بل ليعيد تشكيلها تحت مظلته، ويمنع أي مركز قوة منافس. يريد أوروبا تابعة، مطيعة، مفككة الولاء، بلا شوكة مالية ولا قرار مستقل.
من هنا نفهم كيف ولماذا بدأ النتن ياهو ينقل أمواله واستثماراته إلى الفضاء الرقمي. هو يعرف أن الحروب القادمة ليست في أوكرانيا ولا غزة، بل في فضاء العقول. فتيك توك ليس تطبيقًا للرقص والضحك، بل مختبر لبرمجة السلوك الجمعي، ومنصة X ليست موقع تغريدات، بل ميدان سرديات وحروب رأي عام. النتن يحاول شراء “وعي”، لا أسهُم. يريد أن يحتفظ بجيلٍ جديدٍ من العبيد الرقميين، يلبسون ثياب الترفيه، لكنهم ينفذون أوامر الخوارزمية.
لكن ما لم يفهمه بعد، أن الجيل الجديد صار أذكى من كل خوارزمياتهم. هذا جيل الوعي المتفلت، الذي يقرأ بين السطور، ويحلل الرموز، ويعرف أن الصراع الحقيقي لم يعد بين شرقٍ وغرب، ولا بين ديانةٍ وأخرى، بل بين الحرية والبرمجة. بين من يملك قراره الذاتي، ومن يُدار بعقلٍ مُستعار.
النتن ياهو اليوم لا يقاتل ليبني إسرائيل، بل ليبقي مشروعه في التنفس الصناعي. لكنه يواجه أميركا جديدة لا تشبه تلك التي صنعته، وجيلاً لا يشبه ذلك الذي برمجوه، وعالمًا يعيد تعريف القوة من جديد:
قوة المال تحوّلت إلى قوة الوعي،
والإعلام القديم تحوّل إلى منصات حرة،
والمعركة الكبرى لم تعد على الأرض، بل على العقل الإنساني.
ياسادة هنا تكون النتيجة؟
إسرائيل لن تُمحى فجأة، بل ستذوب ببطء، كقطعة جليد وسط صيفٍ من الحقائق.
ستُترك تغرق في رمالها المتحركة، بينما النظام العالمي الجديد يُعاد تشكيله، ليس بأيدي الصهاينة، بل على أنقاضهم.
نهاية الصهيونية ليست بانفجارٍ عسكري، بل بانكشافٍ معرفي.
ولذلك، لا تنتظر سقوطًا بصوتٍ عالٍ، بل انطفاءً تدريجيًا للوهج.
الوعي حين يستيقظ… لا يحتاج إلى حرب كي ينتصر،
يكفيه أن يرى الحقيقة.