هندسة القيم في زمن النيروجيكو: من التنشئة إلى البرمجة الإدراكية
أسامينا
الأستاذ الدكتور ابوالعلا عطيفى حسنين
مؤسس فلسفة النيروجيكوالأستاذ بكلية الحاسبات والذكاء الاصطناعي – جامعة القاهرةمؤسس ورئيس المدرسة العلمية البحثية المصرية
اتوجه بخالص الشكر والتقدير للأستاذ الدكتور حسام بدراوي على مقاله العميق والملهم حول القيم الإنسانية، الذى نشر بجريدة المصري اليوم – العدد 7765بتاريخ 17 سبتمبر 2025، والذي يفتح بابًا ضروريًا للحوار حول وجدان الإنسان وتشكله في سياقات اجتماعية وتعليمية وثقافية متغيرة. إن ما طرحه الدكتور بدراوي من تساؤلات حول مسؤولية الأجيال، وأزمة التعددية، ودور التعليم في بناء الوعي، يمثل دعوة صادقة لإعادة التفكير في الأسس التي تُبنى عليها شخصية الإنسان في العصر الحديث.
ومن منظور فلسفة النيروجيكو، يمكننا أن نعيد قراءة مفهوم القيم الإنسانية لا بوصفها مجرد فضائل داخلية توجه الإنسان في تفاعلاته، بل كبناء إدراكي قابل للتشكيل والتعديل عبر الوساطة الخوارزمية والتنشئة الرقمية. فالقيمة لم تعد فقط ما يترسخ في الوجدان، بل ما يُعاد إنتاجه عبر الخوارزميات التي تراقب وتوجه السلوك، وتُعيد ترتيب الأولويات وفق نماذج تنبؤية تتفاعل مع البيانات الشخصية في الزمن الحقيقي.
إن ما كان يُعتبر فطريًا أو مكتسبًا عبر التنشئة الاجتماعية، أصبح اليوم معرضًا لإعادة التكوين عبر بيئات رقمية تتداخل فيها الخوارزميات مع التعليم، والإعلام، والثقافة، والفن. فالقيم مثل الاحترام والتعاطف والعدالة، لم تعد تُلقّن فقط، بل تُبرمج وتُقاس وتُراقب، مما يطرح سؤالًا فلسفيًا عميقًا، الا وهو هل ما نعتبره “وجدانا” هو انعكاس حر لإرادة داخلية، أم نتيجة خوارزمية لتفاعلاتنا الرقمية؟
في النيروجيكو، يُعاد تعريف الإنسان بوصفه كائنًا إدراكيًا متعدد الطبقات، تتداخل فيه البيولوجيا مع التقنية، والوعي مع الكود، والوجدان مع الخوارزمية. وبالتالي، فإن القيم الفردية والعائلية والمهنية والوطنية والروحية، لم تعد كيانات مستقلة، بل أصبحت متشابكة مع أنظمة رقمية تحدد ما يُعتبر أخلاقيًا أو مقبولًا أو منحرفًا، وفق منطق الاحتمال لا اليقين.
التعليم، كما ورد في المقالة، لم يعد مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل أصبح فضاءً إدراكيًا يُعاد فيه تشكيل الوجدان عبر أدوات رقمية تتفاعل مع الحالة الذهنية للطالب، وتوجهه نحو نماذج سلوكية معينة. وهنا، تبرز خطورة أن تتحول القيم إلى امتيازات رقمية، تُمنح لمن يتوافق مع النموذج، وتُحجب عمن يخرج عنه.
من منظور النيروجيكو، فإن الأزمة ليست فقط في غياب الرؤية لدى الأجيال السابقة، بل في غياب ميثاق إدراكي عادل يضبط العلاقة بين التقنية والوجدان. نحن بحاجة إلى إعادة التفكير في كيف تُصمم بيئات التعليم والإعلام والثقافة، بحيث لا تُنتج فقط المبدع والعالم، بل الإنسان القادر على التمييز بين الحق والباطل، بين الحرية والسيطرة، بين التعددية والبرمجة.
إننا لا نعيش فقط أزمة قيم، بل أزمة في هندسة الوعي. وإذا لم نُدرك أن القيم في عصر النيروجيكو تُزرع وتُراقب وتُقاس، فإننا سنظل نُحمّل الأجيال مسؤولية وجدان لم نمنحهم أدوات تشكيله بحرية. فالسؤال لم يعد هو ما القيم التي نُعلمها؟ بل من يُبرمجها؟ ومن يملك حق تعديلها؟ وهل نملك نحن، كأفراد، حق الاعتراض على ما يُزرع في وعينا؟
من هنا، فإن فلسفة النيروجيكو تدعو إلى تأسيس ميثاق إدراكي تربوي، يُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتقنية، ويضمن أن تكون القيم الإنسانية جزءًا من البنية التحتية للذكاء المعزز، لا مجرد شعارات تُردد في المناهج. فالمستقبل لا يُبنى فقط بالمحتوى، بل بالبنية الإدراكية التي تُنتجه وتُعيد إنتاجه.
إن رؤية الدكتور حسام بدراوي التي تنطلق من عمق الواقع التربوي والاجتماعي، ورؤية النيروجيكو التي تستشرف مستقبل الإدراك الإنساني، يمكن أن تتكامل في مشروع تربوي إدراكي جديد، يُعيد تعريف التعليم بوصفه هندسة للوعي، ويجعل من القيم الإنسانية ميثاقًا حيًا يُزرع في العقل، لا يُلقن في النصوص. فالمستقبل يحتاج إلى من يربط بين الأصالة والاستشراف، بين التجربة والخوارزمية، بين الإنسان كما هو، والإنسان كما يمكن أن يكون.