الأب: السند الخفي لصحة نفسية أسرية متزنة
أسامينا
في خضم الحديث عن الصحة النفسية للأسرة غالباً ما يُسلط الضوء على دور الأم ذلك الدور المحوري والمشهود له. لكن خلف الكواليس أو بجوارها مباشرةً يقف دور الأب كحجر زاوية آخر، ربما يكون أقل ظهوراً لكن تأثيره لا يقل عمقاً على الصحة النفسية الجماعية للأسرة. الأبحاث الحديثة تؤكد أن الأب ليس مجرد معيل أو رمز للسلطة، بل هو شريك أساسي في بناء بيئة عاطفية آمنة تُزهر فيها الصحة النفسية للجميع.
أبعد من التمويل: الأب كمُنظِّم عاطفي ومصدر للأمان
تؤكد دراسات
جامعة هارفارد أن وجود أب مشارك عاطفياً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتقليل معدلات القلق والاكتئاب لدى الأطفال والمراهقين. كيف؟ الأب الذي يستمع دون تسرع في الحكم الذي يشارك في حل المشكلات اليومية البسيطة الذي يحتوي غضب أو حزن أبنائه، يصبح “منظماً” للمشاعر داخل المنزل.
هذا النوع من التفاعل يعلم الأطفال التنظيم العاطفي وهي مهارة نفسية حاسمة لمواجهة ضغوط الحياة.
تأثير مباشر: من الصحة العقلية للأبناء إلى استقرار الزواج
على الأطفال: وجدت دراسة طويلة الأمد نشرت في “مجلة تنمية الطفل” أن الأطفال الذين يتمتعون بعلاقة قوية وعاطفية مع آبائهم:
يظهرون تقديراً أعلى للذات وثقة أكبر بالنفس.
يتمتعون بقدرات اجتماعية أفضل ويواجهون صعوبات أقل مع الأقران.
تنخفض لديهم بشكل ملحوظ مخاطر الإصابة باضطرابات السلوك والاكتئاب في مرحلة المراهقة.
يطورون قدرات إدراكية ولغوية مميزة، خاصة عندما يقرأ لهم الآباء أو يشاركونهم اللعب الإبداعي.
على الأم: دعم الأب العملي (في الرعاية و المهام المنزلية) والعاطفي للأم هو عامل حاسم في صحتها النفسية
تقول الدكتورة سارة أخصائية نفسية أسرية: “عندما يشعر الأب بمسؤولية مشتركة تجاه الأعباء المنزلية والتربوية وعندما يكون مصدر دعم نفسي لزوجته، تنخفض مستويات التوتر والإرهاق لديها بشكل كبير. هذا بدوره ينعكس إيجاباً على جودة علاقتها الزوجية وعلى مناخ الأسرة ككل، مما يصب في النهاية في صحة الأطفال النفسية”.
على العلاقة الزوجية: العلاقة بين الأبوين هي النموذج الأول الذي يراه الأبناء. الأب الذي يحترم الأم يتعاون معها ويتواصل معها بشكل صحي يخلق بيئة مستقرة وآمنة عاطفياً هذه البيئة هي حاضنة أساسية للصحة النفسية لكل فرد في الأسرة. تشير الأبحاث إلى أن جودة العلاقة الزوجية هي أحد أهم المؤشرات على الصحة النفسية للأبناء.
ما الذي يفعله الأب “النشط نفسياً”؟
لا يتطلب الأمر كمالاً بل مشاركة حقيقية:
الوجود النوعي: ليس مجرد التواجد الجسدي، بل الانخراط الذهني والعاطفي. اللعب، الحديث الاستماع بتركيز.
التعبير العاطفي الإيجابي: إظهار الحب المدح الاحتضان قول “أنا فخور بك”. كسر الصورة النمطية للرجل “الصلب” غير العاطفي.
المشاركة الفعالة في الرعاية: من تغيير الحفاضات في الصغر إلى المساعدة في الواجبات المدرسية وحضور الاجتماعات المهمة.
التواصل مع الأم: التنسيق… الدعم…مشاركة الهموم التربوية والمنزلية واحترام دورها.
وضع الحدود بحب: التربية المتوازنة تحتاج لحزم مع الحنان وهذا دور مشترك بين الأبوين.
التحديات وضرورة التحول
لا يزال العديد من المجتمعات العربية ترزح تحت ثقل الصورة التقليدية للأب كمصدر للرزق والانضباط فقط مع إعفائه ضمناً من المسؤولية العاطفية والرعاية اليومية. هذا النموذج لم يعد كافياً بل وقد يكون ضاراً في عالم اليوم المعقد. التحدي الأكبر هو تحول ثقافي يقر بأهمية الدور النفسي والعاطفي للأب ويشجعه دون خوف من التقليل من “رجولته”.
استثمار في حاضر الأسرة ومستقبلها
الاستثمار في تعزيز وتفعيل الدور النفسي والعاطفي للأب هو استثمار ذو عائد هائل. إنه استثمار في أطفال أكثر مرونةً نفسياً في
أمهات أقل إرهاقاً وأكثر إشباعاً وفي علاقات زوجية أكثر متانة إنه استثمار في بناء جيل قادر على تكوين أسر صحية بدوره. دور الأب هو ليس ظلاً خافتاً، بل هو عمود من أعمدة البيت النفسي. عندما يكون هذا العمود قوياً ومتوازناً يرتقي البيت كله نحو صحة نفسية وازدهار عاطفي يصب في صميم سعادة الأسرة وتماسك المجتمع. حان الوقت لإعطاء هذا “السند الخفي” المكانة والاهتمام الذي يستحقه.
مؤسسة الكفاءات التنموية لصناعة الطفل المبدع