طارت_الفراشات
في أحدث إطلالة إعلامية، بشّر حاكم مصرف سورية المركزي السوريين بأن البلاد على أعتاب التحول إلى “نمر اقتصادي إقليمي”، مستشهداً بتجربة فيتنام، ومؤكداً أن المشاريع التي تم توقيعها مؤخراً ستكون الشرارة الأولى لهذا التحول.
لم تمضِ أيام حتى جاء الرد من رئاسة الجمهورية، التي طلبت مراجعة مذكرات التفاهم واستبعاد الوهمي منها. وكأننا أمام مشهد مسرحي متعدد الأصوات: واحد يرسم صورة وردية، وآخر يسحب الألوان من اللوحة.
ثم جاء وزير الاقتصاد ليزيد المشهد التباساً، معترفاً بأن مشروع “الفراشات” كان وهماً، و مشاريع أخرى
ومؤكداً أن نموذج سنغافورة لا يناسب سوريا. رغم إنه أول من قال بنموذج سنغافورة منذ ان كان وزيرا في النظام البائد و حتى قبل هذا التصريح
المفارقة هنا أن الخطاب الرسمي يتأرجح بين فيتنام وسنغافورة: الأولى اقتصاد ناشئ اعتمد على انفتاح محسوب وإصلاحات زراعية وصناعية، والثانية معجزة مدينة-دولة قامت على الحوكمة الصارمة والانفتاح التجاري الفائق. سوريا لا فيتنام، ولا سنغافورة… ومع ذلك، تُستدعى النماذج بلا تمحيص، وتُطلق التصريحات بلا تنسيق.
تناقضات في إدارة الخطاب الاقتصادي
المشهد يوحي بغياب جهة موحدة تنسّق الرؤية والسياسات الاقتصادية، أو حتى التصريحات الرسمية. فالمركزي يتحدث بلغة “التفاؤل المفرط”، بينما رئاسة الجمهورية تتحدث بلغة “التصحيح”، ووزارة الاقتصاد بلغة “التبرير”. هذا الوضع لا يبعث على الثقة في بيئة الاستثمار، ولا يمنح المواطن ولا الشركاء الدوليين أي وضوح حول الاتجاه الاستراتيجي للبلاد.
من ينسّق السياسات الاقتصادية في سوريا؟
السؤال الجوهري هنا: من يملك “عصا القيادة”؟
هل هو المصرف المركزي بما يعلنه عن الاستقرار النقدي والآفاق الاستثمارية؟
أم رئاسة الوزراء التي تضع ضوابط وتعيد النظر في كل ما يُعلن؟
أم وزارة الاقتصاد التي تحاول أن تجمع بين المواقف وتبني خطاباً وسطياً؟
في غياب مجلس اقتصادي أعلى أو خلية قرار موحّدة، ستبقى هذه التناقضات سمةً أساسية للخطاب الرسمي.
نحو مقترحات عملية وعلمية
إذا أردنا الخروج من دائرة الشعارات و”مشاريع الفراشات”، فلا بد من:
- اعتماد نموذج اقتصادي واقعي:
- تشكيل مجلس اقتصادي أعلى يضم المصرف المركزي، وزارة الاقتصاد، وزارة المالية، وهيئة التخطيط، و منظمات القطاع الخاص و منظمات غير حكومية برئاسة مباشرة من القيادة السياسية، لضمان وحدة القرار.
سوريا ليست سنغافورة (لا تملك موقعها ولا بنيتها الإدارية).
وليست فيتنام (لا تملك قوتها الديموغرافية ولا مستوى الانفتاح).
لذلك يمكن التفكير بخمسة خيارات مطروحة:
- الاقتصاد الواقعي الموجّه: يقوم على إدارة الموارد وفق أولويات وطنية بعيداً عن المثاليات.
- الاقتصاد التكيفي: يعكس القدرة على التكيّف مع العقوبات والظروف المتغيرة.
- الاقتصاد المرن: يركز على المرونة وقدرة النظام الاقتصادي على امتصاص الصدمات.
- اقتصاد البقاء والنهوض: يجمع بين إدارة الأزمات والتحضير للنمو المستقبلي.
- الاقتصاد الوطني التوازني: يوازن بين الانفتاح الخارجي وحماية السوق الداخلية.
- تحويل مذكرات التفاهم إلى برامج تنفيذية واضحة المدى، مرتبطة بمؤشرات قياس، كي لا تبقى أوراقاً للاستهلاك الإعلامي.
- إصلاح بيئة الاستثمار الداخلية: عبر شفافية القوانين، مكافحة الاحتكار، وتبسيط الإجراءات، قبل الحديث عن جذب استثمارات خارجية.
- إطلاق خطاب اقتصادي موحّد: لا يكفي أن تُطلق التصريحات على شكل “باقات ورد” من هنا وهناك، بل يجب أن يكون هناك ناطق اقتصادي رسمي واحد يحدد الاتجاه ويضبط الإيقاع.
الخلاصة
إن الاقتصاد لا يبنى بالشعارات، ولا بالاستعارات الشعرية من عالم الفراشات. الاقتصاد يُبنى برؤية واضحة، وبمؤسسات منسّقة، وبإرادة سياسية تتجنب التناقضات. فما لم يتوقف هذا التشتت في الخطاب، ستبقى سوريا بعيدة عن أي نموذج ناجح، لا فيتنام ولا سنغافورة، بل نموذجها الخاص الذي لم يتبلور بعد.