سوريا بين الحياد والانجذاب للمحاور: هل يمكن أن تصبح “سويسرا الشرق”؟
أسامينا
وائل المولى – كاتب وصحافي
بعد أكثر من عقد من الحرب والدمار، وما تخلله من تدخلات دولية وإقليمية جعلت من سوريا ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، يبرز سؤال جوهري: لماذا لا يتم التفكير جدّيًا بتحويل سوريا إلى دولة محايدة، بعيدة عن الاستقطاب السياسي والعسكري، شبيهة بسويسرا أو النمسا بعد الحرب العالمية الثانية؟ أليس الحياد، بكل ما يحمله من رمزية سيادة وأمن واستقرار، هو السبيل لإنقاذ بلدٍ تحوّل إلى ميدان صراع دائم؟
أولًا: الجغرافيا المأزومة
نجاح التجربة السويسرية لم يكن معزولًا عن محيطها. أوروبا، رغم صراعاتها، أنتجت توافقات كبرى سمحت بوجود “دولة محايدة” في قلبها. أما سوريا فهي تقع في قلب إقليم متفجر: حدود مع “إسرائيل”، جيرة مضطربة مع العراق ولبنان، وأطماع تركية مستمرة، فضلًا عن الارتباط العضوي بالقضية الفلسطينية. هذه الجغرافيا تجعل أي حياد صعب القبول إقليميًا، إذ تُنظر إلى سوريا باعتبارها جائزة استراتيجية لا يمكن تحييدها بسهولة.
ثانيًا: الحسابات الدولية والإقليمية
تتنازع على سوريا خمس قوى أساسية: الولايات المتحدة، روسيا، إيران، تركيا، و”إسرائيل”. كل طرف يرى في الساحة السورية ركيزة لأمنه القومي أو نفوذه الجيوسياسي. القبول بسوريا محايدة يعني تخلي هذه القوى عن جزء من مصالحها الحيوية، وهو أمر غير مطروح حاليًا. لكن التاريخ يثبت أن الحياد يمكن أن يكون ثمرة “صفقة كبرى”، كما حصل مع النمسا عام 1955 حين أُعيد تأسيسها كدولة محايدة بضمانات دولية.
ثالثًا: الداخل السوري الممزق
أي مشروع حياد يحتاج إلى “عقد اجتماعي داخلي” يضمن وحدة المكونات. سويسرا لم تُبنَ على مجرد قرار خارجي، بل على صيغة توافقية بين الكانتونات المختلفة دينيًا ولغويًا. سوريا اليوم تعاني من تصدعات طائفية وقومية ومناطقية عميقة، ما يجعل الحياد بلا أرضية داخلية إن لم يترافق مع مصالحة وطنية عميقة وإصلاحات دستورية شاملة.
رابعًا: العامل الاقتصادي
الحياد ليس فقط خيارًا سياسيًا بل أيضًا مشروعًا اقتصاديًا. سويسرا نجحت لأنها تحولت إلى مركز مالي عالمي. أما سوريا، المنهكة والمدمرة اقتصاديًا، فهي بحاجة إلى إعادة إعمار ضخمة، واستراتيجيات اقتصادية تجعل من موقعها الجغرافي نقطة عبور وتجارية محورية، بدل أن يكون مجرد ميدان عسكري مفتوح. نموذج سنغافورة – أكثر من سويسرا – قد يكون أقرب للواقع السوري إذا ما تم استثماره بذكاء.
خامسًا: هل الحياد ممكن؟
رغم كل التحديات، يبقى خيار “سوريا المحايدة” مطروحًا نظريًا إذا توفرت العناصر التالية:
- دستور جديد يؤكد على الحياد العسكري والسياسي ويُكرّسه قانونيًا.
- ضمانات إقليمية ودولية تحمي وحدة سوريا مقابل التزامها بالحياد.
- لامركزية سياسية وإدارية تضمن حقوق المكونات وتعزز الثقة الداخلية.
- استراتيجية اقتصادية تُحوّل سوريا إلى عقدة تجارية وخدمية بين آسيا وأوروبا.
الخلاصة :الحياد ليس مجرد شعار يُرفع، بل مشروع وطني شامل يحتاج إلى توافق داخلي عميق وإرادة دولية صلبة. سوريا اليوم بعيدة عن هذا السيناريو، لكنها قد تجده يومًا ما المخرج الوحيد من لعبة المحاور. وربما آن الأوان لأن يفكر السوريون ومعهم القوى الكبرى بخيار “سوريا الحيادية”، لا كسويسرا جديدة فحسب، بل كنموذج لإنهاء الحرب عبر مشروع جامع، يعيد للبلد مكانته الطبيعية كجسر حضاري بدل أن يبقى ساحة صراع