عندما تتحول الجغرافيا إلى شبكة أنابيب للمال والقداسة
أسامينا
الطريق الى النقب
من يظن أن العالم اليوم يُعاد تشكيله بالحروب فهو لم يفهم بعد أن القوة الجديدة هي من يملك الطرق لا البنادق، ومن يرسم المسارات لا الحدود. فالمعركة الكبرى لم تعد على الأرض، بل على “الخط”، خط التجارة، خط الطاقة، خط النفوذ. وترامب، التاجر الذي قرأ خريطة العالم بعيون المقاول لا السياسي، فهم أن من يملك الطريق يملك القرار، وأن من يتحكم بالعبور يتحكم بالمصير. لذلك أطلق مشروعه الإبراهيمي عام 2018 ليس كاتفاق سلام كما رُوّج، بل كشبكة اقتصادية-جغرافية هدفها تحويل الشرق الأوسط من صحراء نزاعات إلى ممرات مالية تُدر المليارات، شرط أن تمر من جيبه وتُختم بختمه.
المشروع بدأ من فكرة بسيطة: لماذا تبقى الكعبة وحدها قبلةً للناس وهي تجلب مئات المليارات سنويًا، بينما يمكن أن نصنع “كعبة بديلة” بثوب توراتي في قلب النقب، ونربطها بشبكة من الطرق التجارية العابرة للقارات، لتصبح القبلة الجديدة ليست فقط للعبادة بل للتجارة، الحج الجديد لا للروح بل للربح. هكذا وُلد “الحج الإبراهيمي”، الاسم الروحي لمشروع تجاري ضخم، تُستدعى فيه روايات التوراة لتبرير نقل مركز القداسة من مكة إلى النقب وغزة وبئر السبع، على زعم أن إبراهيم عليه السلام عاش هناك. ولأن ترامب يعرف أن العالم الإسلامي لن يبتلع الفكرة بسهولة، بدأ من حيث يجيد اللعب: من جيب التاجر، لا من عقل المؤمن.
طرح مشروع الطريق الهندي التجاري الذي يربط الهند بدول الخليج، ثم إلى فلسطين المحتلة، ومنها إلى المتوسط فأوروبا، ليبدو في ظاهره مشروع ازدهار عابر للقارات، لكنه في الحقيقة طُعم اقتصادي يربط السعودية والإمارات بسلسلة ذهبية لا يستطيعان كسرها، فإذا تدفقت المليارات عبر هذا الطريق أصبح من السهل التحكم بمنابعها ومصارفها. لكن التاجر الذكي لا يترك صفقة بلا تأمين، لذلك رسم ترامب خطة بديلة احتياطية، “ممر داوود”، يمر عبر البحر الأحمر وصحراء النقب وغزة والعريش وسيناء، ليكون الطريق الاحتياطي إذا قررت السعودية أو أي دولة خليجية الخروج عن النص أو تعطيل مشروع الطريق الهندي. وهكذا صار الشرق الأوسط خريطة من الخطوط المتقاطعة: طريق الهند في الشرق، ممر داوود في الغرب، وخط الحج الإبراهيمي في القلب، لتصبح الجغرافيا أشبه بشبكة أنابيب مالية تنقل الثروة من آسيا إلى أوروبا مرورًا بإسرائيل، وتُدار بريموت كنترول من واشنطن.
ولأن أي مشروع تجاري بهذا الحجم يحتاج غطاءً روحياً يُسكّن الشبهات ويُسكت الشعوب، صيغت اتفاقية “السلام الإبراهيمي” لتبدو دينية توحيدية، بينما هي في حقيقتها اتفاقية أمنية اقتصادية تُهيئ البيئة الجغرافية لحماية هذه الخطوط. ظهرت مشاريع مثل نيوم لتكون محطة الذكاء الصناعي والإدارة المستقبلية، وتيران وسنافير لتتحول إلى بوابة بحرية بين مصر والسعودية، والعريش لتكون عقدة الإمداد، وغزة لتتحول إلى ريفييرا اقتصادية وميناء مفتوح على المتوسط. وكل ما يُقال عن “منتجعات غزة” أو “إعادة إعمارها” ليس إلا تمهيدًا لتحويلها إلى بوابة الحجيج التجاريين الذين سيقصدون النقب لا للعبادة بل لعقد الصفقات.
ترامب لم يخلق حربًا، بل خلق حاجة. جعل الخليج يتذوق طعم الأرباح عبر الطريق الهندي، ثم وضع في يده سكينًا اقتصادية: إن رفضتم المشروع الإبراهيمي أقطع الطريق وأوقف التدفق. وإن وافقتم ضمنت لكم دورًا في الممر التجاري الجديد. وبهذا تحولت السعودية من دولة نفطية إلى عقدة عبور مشروطة، تمر منها التجارة لكنها لا تملك قرارها. لذلك تم بناء الطريق الاحتياطي ليبقى المشروع قائمًا مهما تبدلت الأنظمة أو تبددت الولاءات، فترامب لا يثق إلا بالمخططات التي يمكنها أن تستمر من بعده، محمية بالجيش الإبراهيمي الذي سيُشكَّل من الدول الموقعة على الاتفاق، بحجة حماية “المسار المقدس”.
اليوم، ومع انهيار غزة تحت القصف، تتهيأ الأرض لمشروع الإعمار الذي سيحمل في طيّاته البنية التحتية للخط التجاري البديل. من الفنادق إلى الموانئ إلى المناطق الحرة، كل حجر سيُوضع ليس عبثًا، بل وفق خريطة قديمة رسمت منذ لحظة توقيع اتفاقية “السلام الإبراهيمي”. لذلك، لا عجب أن تُفتح تيران وسنافير، وأن تُفعّل نيوم، وأن تُطرح مشاريع الربط البري بين الخليج ومصر وإسرائيل. كل شيء محسوب بدقة، لأن المشروع ليس سياسياً بل ماليّ الطابع، وكل من يدخل فيه يصبح رهينة تدفق الأموال لا شريكاً في القرار.
الخدعة الكبرى أن الناس تظن أن الحديث عن إسرائيل الكبرى أو الهيكل الثالث هو محور اللعبة، بينما الحقيقة أن هذا كله ديكور دعائي. النص الحقيقي مكتوب بلغة الاقتصاد، والهيكل الحقيقي هو الهيكل التجاري، ومحرابه هو الممر الهندي وممر داوود والحج الإبراهيمي. فهنا تُعبد الأرباح، وتُقدّم القرابين من الدول الضعيفة، ويُكتب القدر الجديد للمنطقة. والذين ظنوا أن ترامب رجل دين سياسي، نسوا أنه رجل أعمال لا يرى العالم إلا من نافذة الأرباح والخسائر.
نقطة انتهى… لكن من يفهم يدرك أن ما يُبنى اليوم ليس طريقًا للحجيج بل طريقًا للهيمنة، وأن من يُمسك بخيوط التجارة يُمسك برقاب الأمم. فحين تصبح القداسة سلعة، والجغرافيا ممرًا، والأنبياء علامات تجارية، فاعلم أن “النقب” صار أكثر قداسة عندهم من مكة، لا لأن فيه بيت الله، بل لأن تحته بيت المال.