“إلغاء قيصر؟ أم إلغاء الوعي؟”
أسامينا
“إلغاء قيصر؟ أم إلغاء الوعي؟”
في الساعات الماضية، انشغلت وسائل التواصل بخبرٍ تمّ تسويقه كأنّه حدث تاريخي: “مجلس الشيوخ الأمريكي ألغى قانون قيصر”، و”العقوبات انتهت”، و”الطريق فُتح للإعمار والاستثمار”. لكن حين نقترب من التفاصيل، يتبيّن أن ما جرى لا يتعدّى كونه سوء فهمٍ ضخم، أو تضليلٍ مقصود استغلّه البعض لخلق ضجة إعلامية. الحقيقة ببساطة أن الكونغرس لم يُلغِ قانون قيصر إطلاقاً، بل صوّت على قانون الدفاع الوطني السنوي (NDAA)، وهو مشروع ضخم يضم أكثر من ألف بند تتعلق بالميزانية والسياسة الدفاعية، ومن بينها بندٌ رمزي صغير يتحدث عن “مراجعة سياسة العقوبات على سوريا”، لا عن إلغائها. التعديل لا يُغيّر أي مادة من قانون قيصر، ولا يحمل أثرًا تنفيذياً، بل هو توصية عامة تدعو إلى تقييم الأثر الإنساني للعقوبات.
لكن المشكلة ليست في الخبر ذاته، بل في الطريقة التي يتم بها تضخيمه وتقديمه للرأي العام وكأنه “نقطة تحول”، وكأن كل شيء سيتبدل غداً. هذا التضليل لا يخدم أحدًا، بل يُربك الناس ويفقدهم القدرة على فهم الواقع. من يريد فعلاً أن يعرف ما يجري في واشنطن يجب أن يدرك أن إلغاء قانون قيصر يحتاج قانونًا جديدًا منفصلًا يُقَرّ في مجلسي النواب والشيوخ ويوقّعه الرئيس الأمريكي — وهذا لم يحصل بعد. المشروعان الموجودان (S.2133 وH.R.3941) ما زالا متعثرين في اللجان، ولم يحصلا على الأغلبية الكافية، وبالتالي لا وجود لإلغاء فعلي أو حتى شبه مؤكد.
من الطبيعي أن تُطرح بين حينٍ وآخر مشاريع لمراجعة العقوبات، لأن داخل الكونغرس نفسه توجد تيارات مختلفة: من يرى العقوبات ضرورية للضغط السياسي، ومن يراها مؤذية للشعب العادي، ومن يستخدمها كورقة تفاوض في ملفات أخرى. هذا جزء من اللعبة السياسية الأمريكية المعقدة، وليس “تحولاً استراتيجياً نحو دمشق” كما يروّج البعض. بل على العكس، واشنطن اليوم تركّز على ملفات أخرى كالصراع مع الصين وروسيا، والملف السوري بالنسبة لها هامشي، يتم التعامل معه من زاوية إنسانية وأمنية أكثر مما هو سياسية.
لذلك، فإن التسرع في إعلان “نهاية قانون قيصر” هو قفز على الواقع. العقوبات قائمة، والتحويلات المالية لسوريا ما زالت تخضع للرقابة، والملفات المتعلقة بالاستثمار والإعمار لا يمكن أن تتحرك من دون قرار رسمي من وزارة الخزانة الأمريكية. والحديث عن “فتح السفارة الأمريكية في دمشق” لا يستند إلى أي وثيقة أو تصريح رسمي من الخارجية الأمريكية.
الخلاصة أن ما جرى ليس حدثاً مفصلياً، بل إشارة رمزية ضمن قانون ضخم، جرى تضخيمها لأسباب إعلامية أو سياسية. كل ما في الأمر أن الكونغرس أبدى استعداداً للنقاش حول العقوبات، لا أكثر. أما من حولها إلى “نصر” أو “بداية عهد جديد”، فهو يبيع وهماً سياسياً في سوقٍ عطشى للأمل.
الوعي اليوم هو خط الدفاع الأخير. ليس المطلوب أن نكون متشائمين، بل واقعيين. نُفرّق بين المعلومة والتحليل، بين الرغبة والحقيقة. لأن ما يُراد من الناس أحياناً ليس تصديق الكذبة… بل التوقف عن السؤال. فاسأل دائمًا، ولا تنخدع بالأخبار التي تُقدَّم على طبق من العاطفة، لأن أخطر الأكاذيب هي تلك التي تُقال بنبرة الفرح.